طه حسين ومحمد نور – الوطن | يلا شوت

طه حسين ومحمد نور – الوطن | يلا شوت

«وحيث أنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريا»، القاهرة في 30 مارس سنة 1927 رئيس نيابة مصر.

بهذه العبارات أنهى محمد نور رئيس نيابة مصر في قضية كتاب الشعر الجاهلي التي هزت مصر وشغلتها في عامي 1926 و1927.

شاءت الظروف أن يكون محمد نور هذا رئيس النيابة التي تحقق مع مؤلف الكتاب د. طه حسين وأن يحفر نور اسمه بحروف من نور وكأنه تجسيدا للتنوير في ذلك الوقت.

القصة أن طه حسين الذي غادر الأزهر ولم يعد إليه ودرس في جامعة فؤاد الأول – القاهرة – وكان كما وصف نفسه قلقا وقلوقا ومقلقا، لذلك بعد أن عاد من فرنسا، كان محملا بإحساس بالمسئولية بشأن التنقيب في التراث وتصحيح المفاهيم.

اختار طه حسين الذي لقب فيما بعد بالعميد قضية الشعر الجاهلي ليكتب عما اعتقد في وجود ذاك الشعر أو عدم وجوده وتأثير ذلك على كثير من المفاهيم الدينية واللغوية والتاريخية.

هذا العام يكون قد مر على صدور كتاب الشعر الجاهلي 99 عاما مقتربا من قرن بالتمام والكمال، ويتذكر كل مثقف ومتنور اسم محمد نور الذي ارتبط باسم طه حسين وبقضية الشعر الجاهلي.

بعد صدور الكتاب تقدم طالب أزهري هو خليل حسنين ببلاغ لسعادة النائب العمومي يتهم فيه طه حسين الذي يعمل بالجامعة المصرية بأنه في كتابه طعن بصراحة في القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم.

بعد بلاغ خليل بأيام أرسل شيخ الأزهر لسعادة النائب العمومي خطابا آخر يبلغه فيه بتقرير رفعه علماء الأزهر عن الكتاب، كذب في طه حسين القرآن صراحة وطعن فيه على النبي وعلى نسبه الشريف وأهاج بذلك ثائرة المتدينين وأتى فيه بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى، وطلب اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجعة ضد هذا الطاعن على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحاكمة.

وتبع ذلك بلاغ آخر من أحد النواب في البرلمان وهو عبد الحميد البنان أفندي ذكر فيه أن طه حسين نشر ووزع وباع وعرض للبيع في المحافل والمحلات العمومية كتاب الشعر الجاهلي طعن فيه وتعدى على الدين الإسلامي وهو دين الدولة بعبارات صريح واردة في كتابه.

وأجري التحقيق بالفعل مع طه حسين، وقال نور في مذكرة التحقيق: أنه نظرا لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصري فقد أرجانا التحقيق إلى ما بعد عودته، فلما عاد بدأنا التحقيق بتاريخ 26 أكتوبر سنة 1926 فأخذنا أقوال المبلغين جملة بالكيفية المذكورة بمحضر التحقيق ثم استجوبنا المؤلف وبعد ذلك أخذنا في دراسة الموضوع بقدر ما سمحت به لنا الحالة.

تكشف مذكرة التحقيق عن مدى ثقافة ورقي رئيس النيابة الذي يصف «المتهم» بالأستاذ المؤلف، ويدون _ سئل الأستاذ المؤلف _، ويصف المبلغين بأنهم حضرات المبلغين، هكذا كانت لغته الوقورة المحترمة.

وفي نهاية التحقيق يقول نور: إن ما ذكره المؤلف في كتابه هو بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين، ولا اعتراض لنا عليه.  

وقد نصت المادة 12 من الأمر الملكي رقم 42 لسنة 1923 بوضع نظام دستوري للدولة المصرية على أن حرية الاعتقاد مطلقة.

كما نصت المادة 14 منه على أن حرية الرأي مكفولة ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو بغير ذلك في حدود القانون.

فلكل إنسان إذن حرية الاعتقاد بغير قيد ولا شرط وحرية الرأي في حدود القانون فله أن يعرب عن اعتقاده وفكره بالقول أو الكتابة بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون.

وقد أنكر المؤلف في التحقيقات أنه يريد الطعن على الدين الإسلامي وقال أنه ذكر ما ذكر في سبيل البحث العلمي وخدمة العلم لا غير.

وقد وجدنا المؤلف قد شرح نظريته شرحاً مستفيضاً في مقال نشره بجريدة السياسة الأسبوعية بالعدد نمرة 19 الصادر في يوليه سنة 1926 ص 5 تحت عنوان العلم والدين وقد ذكر فيه بالنص: فلكل امرئ منا يستطيع إذ فكر قليلاً أن يجد في نفسه شخصيتين متمايزتين إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل، وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، وتهدم اليوم ما بنته أمس، والأخرى شاعرة تلذ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وترعب وترهب في غير نقد ولا بحث ولا تحليل.

وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكوننا لا نستطيع أن نتخلص من إحداهما فما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى.

وقال نور: إن للمؤلف فضلا لا ينكر في سلوكه طريق جديد للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، وحيث أنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه  إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.  

واختتم نور مذكرته بما ذكرته في أول فقرة من المقال.

وقد أعاد طه حسين طباعة كتابه «في الشعر الجاهلي» بعنوان جديد هو «الأدب الجاهلي» بعد الانتقادات والضجة التي أحدثها الكتاب ورفع منه الفصول الأربعة التي أثارت الرأي العام.

تحية لروح محمد نور أحد رموز التنوير.